علي الحمـــداني 2
لمحات من التاريخ الحديث :
بعد أن إنتهينا في القسم الأول من إستعراض أحداث التاريخ القديمة والتي وردت في الإسرائيليات ، وأحداث الصراع مع الإمبراطوريتين القديمتين الآشورية والبابلية وربط تلك الأحداث وتأثيراتها على عالم السياسة اليوم وخصوصا مايجري في العراق . ننتقل في القسم الثاني الى التاريخ القريب والتي إبتدأت أحداثه مع بداية القرن الماضي وتفاعل تلك الأحداث لربط العقيدة الإسرائيلية والصهيونية العالمية بالمخططات التي تم تنفيذها في منطقة الشرق الأوسط ولايزال التنفيذ مستمرا ً....!
يحكي جون كولي الصحفي ومؤلف كتاب ( إتحاد ضد بابل ) مايلي :
( في ربيع عام 1966 كان في رحلة جوية مع مراسل جريدة " لوس أنجليس تايمز " (جو أليكس موريس) حملتهما من بيروت الى بغداد .. كانت بغداد قد شهدت فترات عصيبة ومتوترة منذ عام 1958 ، حين قام إنقلاب عسكري ضد الحكم الملكي وقتل فيه الملك فيصل الثاني الذي كان لايتجاوز عمره 23 عاما مع عدد من أفراد عائلته ومستشاريه ومنهم رئيس الوزراء نوري السعيد ( 70 عاما ) .. كان الإنقلاب دموياً بكل معنى الكلمة ، حيث تم سحل جثة نوري السعيد في شوارع بغداد وعلّقت جثة الوصي على العرش وخال الملك الأمير عبد الإله على باب وزارة الدفاع . قام بذلك الإنقلاب عميد في الجيش العراقي هو عبد الكريم قاسم ، الذي حكم لفترة قصيرة ، ثم قتل هو الآخر عام 1963 على يد إنقلابيين آخرين من عسكريين ومدنيين من حزب البعث ، حيث كان معظمهم يعيش في سوريا .. وكان ذلك الإنقلاب أول ظهور لإسم صدام حسين عضو الحزب الذي كان معروفا بالصلابة والعنف ، ولكنه لم يكن آنذاك في موقع قيادي متقدم .
لم تدم تلك الفترة الإ تسعة أشهر فقط ، حين إنقلب على الحكم عبد السلام عارف ، أحد رجالات إنقلاب تموز 1958 .. وكان قد لقي حتفه لاحقا في حادث سقوط طائرته الهليوكوبتر بشكل مثير للشكوك بأنه كان حادث مدبر ..! وقد خلفه في رئاسة الجمهورية شقيقه عبد الرحمن عارف وهو شخصية ضعيفة ومسالمة قياسا لمن سبقه ..
في مطار بغداد القديم ، كان بإستقبالنا دبلوماسي من السفارة الأمريكية بصحبة مترجم عراقي شاب ذكر إسمه الأول وهو ( عدنان ) ، حيث أخذنا الى فندق بغداد في شارع السعدون وسط بغداد ، وأخبرنا ان لقاءاً قد حدد لنا مع رئيس الوزراء عبد الرحمن البزاز ..
في صالة الفندق ، ونحن نرتشف القهوة العربية ، إلتفت عدنان الينا قائلا : ( إن العراق الجديد سوف يدهشكم .. وستعلمون أنّا لسنا جميعا من القتلة ، كما حاولت أن تصور ذلك لكم بعض أجهزة إعلامكم ..)
الدكتور عبد الرحمن البزاز ، كان شخصية هادئة وخجولة ، وكان على علاقة صداقة بقيادات بعثية منها السوريان ميشيل عفلق وصلاح البيطار ، والأخير كان رئيسا لوزراء سوريا إبان حكم حافظ الأسد لسوريا ، وكنت شخصيا قد إلتقيته خلال زيارتي لدمشق في الخريف السابق . كان حديث البزاز عاما تناول فيه الموقف الإسرائيلي وعدائه للعرب ، وكذلك عن حركة ( التمرد ) الكردية في شمال العراق .. هنا طلب ( جو ) أن نقوم بسفرة الى منطقة كردستان للإطلاع على الوضع هناك .. وافق البزاز ولكنه قال لنا إن ترتيب ذلك سوف يأخذ بعض الوقت .. ، وإنتبهت الى إشارة من عين عدنان تفيد بأن لانتكلم في هذا الموضوع ..!
لاحقا وبعد خروجنا من مكتب البزاز ، قال عدنان : إن الشخص الوحيد الذي يمكنه أن يرتب لكم رحلة الى الشمال وبسرعة هو رئيس الجمهورية نفسه ، والذي سوف تقابلوه غدا على العشاء .. وفعلا أخبرنا الرئيس عارف أن طائرة هليوكوبتر ستقلنا صباح الغد الباكر من بغداد الى شمال العراق مع بعض المرافقين لنا ...
في اليوم الثاني ، كنا مع الفجر على متن الطائرة التي أقلتنا أولا الى السليمانية ، ثم كركوك ، ثم دهوك ، وأخيرا أربيل ، حيث قضينا حوالي ساعتين في كل منطقة تخللتها بعض المحادثات مع مسؤوليين اكراد .. وقد أوضح الجانبين العراقي والكردي عن النية في وقف قريب لإطلاق النار ، وإعطاء الكرد حقوقهم .
كنا نعلم يقيناً ، أن هناك في الشمال بعض الخبراء الإسرائيليين من عسكريين وأجهزة مخابرات قد أُرسلوا من تل أبيب مع أموال وأسلحة لإظهار نوع من التضامن والتعاطف مع الأكراد وكذلك إبقاء الضغط على حكومة بغداد وهو الأهم .. ولكن لم يتطرق أحد الى هذا الموضوع ...!
بعد عودتي الى بيروت .. بدأت أبحث في كتب التاريخ في مكتبة الجامعة الأمريكية ، وكذلك التحدث مع خبراء في شؤون العالم العربي .. لقد كان هناك حذر وخوف من إحتمال نشوب حرب جديدة بين إسرائيل والعرب بدأت بوادرها تلوح في الأفق ، وهي الأولى منذ عام 1956 ، حين تدخل الرئيس الأمريكي آيزنهاور لوقف الهجوم الإسرائيلي ـ البريطاني ـ الفرنسي على مصر بسبب أزمة تأميم قناة السويس من قبل الرئيس المصري آنذاك جمال عبد الناصر . لقد حدثت بعض المناوشات على الحدود الأردنية ـ الإسرائيلية ، حين أغار الجيش الإسرائيلي على موقع لفدائيين فلسطينيين ، تطلق عليهم إسرائيل ( الإرهابيين ) ويسميهم العرب ( مقاتلون من أجل الحرية ) ، كذلك حدث نوع من التصادم بين الإسرائيليين والسوريين قرب مقر الأمم المتحدة في الجليل الأعلى ومرتفعات الجولان .. كما كانت هناك عمليات شد وتبادل للتهم بين عبد الناصر وليفي إشكول رئيس وزراء إسرائيل عن حزب العمل ..في ذلك الوقت ، تولى موشي دايان وزارة الدفاع الإسرائيلية بما يوحي بقرب سخونة الأحداث ...!
أما العراق .. فقد كان بعيدا بعض الشيء من قلب الأحداث ومناطقها الجغرافية الساخنة .. ولكن ، ولمعرفة كيف أصبح العراق جزءاً من الحرب التي شنتها إسرائيل صبيحة الخامس من حزيران 1967 على كل من مصر والأردن وسوريا لتتغير بعدها خريطة الشرق الأوسط حتى يومنا هذا ، لابد من الرجوع الى الوراء وقراءة الأحداث في المنطقة العربية ومنذ مطلع القرن العشرين ...! )
عند حلول القرن العشرين ، كان لبريطانيا مستعمرتين رئيسيتين .. الأولى تضمن تجهيز النفط الذي تحتاجه بريطانيا لأساطيلها البحرية ، وإدارة عجلات الصناعة .. والثانية لحماية الطرق البحرية ، ولاحقا الجوية الى الهند .. العراق كان المفتاح لكلا المستعمرتين ( الهند والعراق ) بسبب نفطه وموقعه الجغرافي ...!
في 1910 بدأ النفط يتدفق من حقل مسجد سليمان في جنوب إيران .. وكانت شركة النفط البريطانية ـ الفارسية ، تمثل مورداً إستراتيجياً ، بالإضافة الى شركة الهند الشرقية في البصرة ونفوذها ودورها السياسي الإمبريالي لبريطانيا في جيل ماقبل النفط ..
البصرة نفسها ، تحمل أهمية خاصة لبريطانيا من حيث موقعها الجغرافي ، وربط الطرق البرية والبحرية لأوربا والشرق الأوسط بالهند وما وراءها ..!
يذكر أنه في عام 1903 ، كانت الحكومة الألمانية الحليفة لتركيا ، قد وقّعت إتفاقا مع الإمبراطورية العثمانية لغرض بناء خط سكة حديد يربط بين برلين وبغداد عبر تركيا وسوريا ، ولو قدّر لهذا المشروع ، وبحسب النظرة البريطانية ، من أن يكتمل ، فإنه سيفتح أمام ألمانيا الطريق الى البصرة وبالتالي المحيط الهندي ..!
في أب / أغسطس من عام 1914 ، بدأ دوي المدافع يسمع في أوربا والشرق الأوسط .. لقد بدأت الحرب العالمية الأولى بين بريطانيا وفرنسا وروسيا من جهة ضد ألمانيا والنمسا والأمبراطورية العثمانية ( تركيا ) من جهة أخرى .. وفي نوفمبر 1914 ، نزلت القوات الهندية بقيادة بريطانيا في نفس الموقع تماما الذي نزلت فيه قوات التحالف الأمريكية ـ البريطانية بعد 89 سنة ، أي في سنة 2003 في الحرب الأخيرة على العراق ، وأعني به ميناء الفاو ..! وبعد السيطرة على مدينة البصرة .. ومع بداية عام 1915 ، بدا الجيش البريطاني بقيادة الجنرال ( جارلس تاونسند ) بالزحف بإتجاه بغداد ..! إلا أنه في منطقة الأهوار ، وخصوصا هور الحمّار واجهت تلك القوات مقاومة ضارية من العرب سكان جنوب العراق ومن بقايا الجيش التركي .. مقاومة كانت ربما أكبر بكثير من تلك التي واجهتها قوات التحالف في تقدمها نحو بغداد عام 2003 ...!
على الجبهة الثانية ، وفي نفس السنة 1915 ، الى الغرب من إسطنبول ، قاد الجنرال الألماني ( كولمان فان دير ) الجيش التركي ضد الجيش البريطاني والأسترالي في هجومهما على ( غاليبولي ) غرب إسطنبول ومضيق الدردنيل .. وأوقف هجومهما ...!
وبالعودة الى العراق .. فإن القوات التركية واجهت القوات البريطانية على مسافة قريبة من بغداد ، وبالذات في منطقة ( سلمان باك ) أو المدائن ، حيث تمكنت القوات التركية من دفع البريطانيين مسافة 100 ميل الى الجنوب ، وأعادتها الى منطقة الكوت جنوب بغداد ، حيث حاصرتها هناك لمدة 140 يوما ـ إستسلم بعدها الجنود البريطانيون وعددهم 13,000 جندي في حالة من التعب والجوع ، وكان ذلك في 16 نيسان / ابريل عام 1916 .. مما إعتبره البريطانيون أكبر نصر يحققه (المسلمين) ..! على الغرب على مدى قرون ...!
في ديسمبر 1916 ، وبعد أن سمع وزير المستعمرات البريطاني ونستون تشرتشل ، ووزير الخارجية ديفيد لويد جورج ، ومن قبل جواسيسهم في المنطقة ، أن المقاومة الشيعية من أهل مدينة النجف قاموا بإخراج الأتراك من مدينتهم .. توهم الإثنان أن إستراتيجية جديدة يمكن وضعها موضع التطبيق اساسها النفرة والصراع الطائفي بين السنة والشيعة ، وتم إعتماد الجنرال ( ستانلي مود ) هذه المرة لقيادة الهجوم البريطاني لإحتلال بغداد .. ولكن الحقيقة أنه كان هناك قصور في الرؤيا البريطانية لفهم العقلية العراقية العشائرية على الأرض حين إعتمدوا على الجانب الطائفي كورقة رابحة ..! تماما كما وقع في نفس الخطأ الأمريكان عام 2003 حين إعتقدوا أن وجود حكومة شيعية مرتبطة بهم في بغداد هو الضمان لكسبهم القاعدة الشعبية الشيعية .. ولا زالت أميركا تترنح بعد أربع سنوات من حملتها العسكرية ...!!
بقيت المقاومة في العراق ضد البريطانيين بكلي طرفيها الشيعي والسني على أوجها في منطقة الأهوار والفرات الأوسط وبغداد وما حولها .. ولكن مع قوة الماكنة العسكرية البريطانية ، إستطاع الجنرال مود من دخول بغداد في 15 آذار / مارس 1917 .
كان مود وبقية قواته منهكين ، كما كان داء الكوليرا قد تمكن من بعضهم .. مما أدى الى وفاة الجنرال مود ، ودفن في بغداد ...!
أما على صعيد السياسة ، فقد صرحت بريطانيا ، انها جاءت لتحرر العراق ، وتزرع الديمقراطية فيه ..! ( وما أشبه ما حدث بالأمس بما حدث لاحقا بعد ثمانية عقود ولايزال يحدث ...!!)
في نفس الوقت ، وضعت القيادة البريطانية في مصر ، خطةُ لإعتماد المقدم لورنس ، الذي عرف لاحقا ( بلورنس العرب ) ليقوم بقيادة حرب عصابات ضد الأتراك في الجزيرة العربية وبالتحالف مع العرب ..! ولهذا الغرض ، فقد إلتقى لورنس مع بعض المسؤوليين العرب في إجتماع في دمشق عام 1915 لتطمينهم ووعدهم بمنح الإستقلال لدولهم من الإمبراطورية العثمانية .. لقد أطلق على هذا اللقاء ( بروتوكول دمشق ) وتضمن نوع من الإستقلال للدول العربية ، أو بالأحرى بعضها مثل الجزيرة العربية بضمنها اليمن ، وسوريا ، ولبنان ، والعراق ..!
ولكن في واقع الأمر فإن البروتوكول لم يكن يمثل وجهة النظر السياسية البريطانية الحقيقية ، التي أرادت إستخدام العرب لدحر الأتراك .. والتريث في موضوع منح الإستقلال ...!
للمقال بقية...
lalhamdani@yahoo.com
لمحات من التاريخ الحديث :
بعد أن إنتهينا في القسم الأول من إستعراض أحداث التاريخ القديمة والتي وردت في الإسرائيليات ، وأحداث الصراع مع الإمبراطوريتين القديمتين الآشورية والبابلية وربط تلك الأحداث وتأثيراتها على عالم السياسة اليوم وخصوصا مايجري في العراق . ننتقل في القسم الثاني الى التاريخ القريب والتي إبتدأت أحداثه مع بداية القرن الماضي وتفاعل تلك الأحداث لربط العقيدة الإسرائيلية والصهيونية العالمية بالمخططات التي تم تنفيذها في منطقة الشرق الأوسط ولايزال التنفيذ مستمرا ً....!
يحكي جون كولي الصحفي ومؤلف كتاب ( إتحاد ضد بابل ) مايلي :
( في ربيع عام 1966 كان في رحلة جوية مع مراسل جريدة " لوس أنجليس تايمز " (جو أليكس موريس) حملتهما من بيروت الى بغداد .. كانت بغداد قد شهدت فترات عصيبة ومتوترة منذ عام 1958 ، حين قام إنقلاب عسكري ضد الحكم الملكي وقتل فيه الملك فيصل الثاني الذي كان لايتجاوز عمره 23 عاما مع عدد من أفراد عائلته ومستشاريه ومنهم رئيس الوزراء نوري السعيد ( 70 عاما ) .. كان الإنقلاب دموياً بكل معنى الكلمة ، حيث تم سحل جثة نوري السعيد في شوارع بغداد وعلّقت جثة الوصي على العرش وخال الملك الأمير عبد الإله على باب وزارة الدفاع . قام بذلك الإنقلاب عميد في الجيش العراقي هو عبد الكريم قاسم ، الذي حكم لفترة قصيرة ، ثم قتل هو الآخر عام 1963 على يد إنقلابيين آخرين من عسكريين ومدنيين من حزب البعث ، حيث كان معظمهم يعيش في سوريا .. وكان ذلك الإنقلاب أول ظهور لإسم صدام حسين عضو الحزب الذي كان معروفا بالصلابة والعنف ، ولكنه لم يكن آنذاك في موقع قيادي متقدم .
لم تدم تلك الفترة الإ تسعة أشهر فقط ، حين إنقلب على الحكم عبد السلام عارف ، أحد رجالات إنقلاب تموز 1958 .. وكان قد لقي حتفه لاحقا في حادث سقوط طائرته الهليوكوبتر بشكل مثير للشكوك بأنه كان حادث مدبر ..! وقد خلفه في رئاسة الجمهورية شقيقه عبد الرحمن عارف وهو شخصية ضعيفة ومسالمة قياسا لمن سبقه ..
في مطار بغداد القديم ، كان بإستقبالنا دبلوماسي من السفارة الأمريكية بصحبة مترجم عراقي شاب ذكر إسمه الأول وهو ( عدنان ) ، حيث أخذنا الى فندق بغداد في شارع السعدون وسط بغداد ، وأخبرنا ان لقاءاً قد حدد لنا مع رئيس الوزراء عبد الرحمن البزاز ..
في صالة الفندق ، ونحن نرتشف القهوة العربية ، إلتفت عدنان الينا قائلا : ( إن العراق الجديد سوف يدهشكم .. وستعلمون أنّا لسنا جميعا من القتلة ، كما حاولت أن تصور ذلك لكم بعض أجهزة إعلامكم ..)
الدكتور عبد الرحمن البزاز ، كان شخصية هادئة وخجولة ، وكان على علاقة صداقة بقيادات بعثية منها السوريان ميشيل عفلق وصلاح البيطار ، والأخير كان رئيسا لوزراء سوريا إبان حكم حافظ الأسد لسوريا ، وكنت شخصيا قد إلتقيته خلال زيارتي لدمشق في الخريف السابق . كان حديث البزاز عاما تناول فيه الموقف الإسرائيلي وعدائه للعرب ، وكذلك عن حركة ( التمرد ) الكردية في شمال العراق .. هنا طلب ( جو ) أن نقوم بسفرة الى منطقة كردستان للإطلاع على الوضع هناك .. وافق البزاز ولكنه قال لنا إن ترتيب ذلك سوف يأخذ بعض الوقت .. ، وإنتبهت الى إشارة من عين عدنان تفيد بأن لانتكلم في هذا الموضوع ..!
لاحقا وبعد خروجنا من مكتب البزاز ، قال عدنان : إن الشخص الوحيد الذي يمكنه أن يرتب لكم رحلة الى الشمال وبسرعة هو رئيس الجمهورية نفسه ، والذي سوف تقابلوه غدا على العشاء .. وفعلا أخبرنا الرئيس عارف أن طائرة هليوكوبتر ستقلنا صباح الغد الباكر من بغداد الى شمال العراق مع بعض المرافقين لنا ...
في اليوم الثاني ، كنا مع الفجر على متن الطائرة التي أقلتنا أولا الى السليمانية ، ثم كركوك ، ثم دهوك ، وأخيرا أربيل ، حيث قضينا حوالي ساعتين في كل منطقة تخللتها بعض المحادثات مع مسؤوليين اكراد .. وقد أوضح الجانبين العراقي والكردي عن النية في وقف قريب لإطلاق النار ، وإعطاء الكرد حقوقهم .
كنا نعلم يقيناً ، أن هناك في الشمال بعض الخبراء الإسرائيليين من عسكريين وأجهزة مخابرات قد أُرسلوا من تل أبيب مع أموال وأسلحة لإظهار نوع من التضامن والتعاطف مع الأكراد وكذلك إبقاء الضغط على حكومة بغداد وهو الأهم .. ولكن لم يتطرق أحد الى هذا الموضوع ...!
بعد عودتي الى بيروت .. بدأت أبحث في كتب التاريخ في مكتبة الجامعة الأمريكية ، وكذلك التحدث مع خبراء في شؤون العالم العربي .. لقد كان هناك حذر وخوف من إحتمال نشوب حرب جديدة بين إسرائيل والعرب بدأت بوادرها تلوح في الأفق ، وهي الأولى منذ عام 1956 ، حين تدخل الرئيس الأمريكي آيزنهاور لوقف الهجوم الإسرائيلي ـ البريطاني ـ الفرنسي على مصر بسبب أزمة تأميم قناة السويس من قبل الرئيس المصري آنذاك جمال عبد الناصر . لقد حدثت بعض المناوشات على الحدود الأردنية ـ الإسرائيلية ، حين أغار الجيش الإسرائيلي على موقع لفدائيين فلسطينيين ، تطلق عليهم إسرائيل ( الإرهابيين ) ويسميهم العرب ( مقاتلون من أجل الحرية ) ، كذلك حدث نوع من التصادم بين الإسرائيليين والسوريين قرب مقر الأمم المتحدة في الجليل الأعلى ومرتفعات الجولان .. كما كانت هناك عمليات شد وتبادل للتهم بين عبد الناصر وليفي إشكول رئيس وزراء إسرائيل عن حزب العمل ..في ذلك الوقت ، تولى موشي دايان وزارة الدفاع الإسرائيلية بما يوحي بقرب سخونة الأحداث ...!
أما العراق .. فقد كان بعيدا بعض الشيء من قلب الأحداث ومناطقها الجغرافية الساخنة .. ولكن ، ولمعرفة كيف أصبح العراق جزءاً من الحرب التي شنتها إسرائيل صبيحة الخامس من حزيران 1967 على كل من مصر والأردن وسوريا لتتغير بعدها خريطة الشرق الأوسط حتى يومنا هذا ، لابد من الرجوع الى الوراء وقراءة الأحداث في المنطقة العربية ومنذ مطلع القرن العشرين ...! )
عند حلول القرن العشرين ، كان لبريطانيا مستعمرتين رئيسيتين .. الأولى تضمن تجهيز النفط الذي تحتاجه بريطانيا لأساطيلها البحرية ، وإدارة عجلات الصناعة .. والثانية لحماية الطرق البحرية ، ولاحقا الجوية الى الهند .. العراق كان المفتاح لكلا المستعمرتين ( الهند والعراق ) بسبب نفطه وموقعه الجغرافي ...!
في 1910 بدأ النفط يتدفق من حقل مسجد سليمان في جنوب إيران .. وكانت شركة النفط البريطانية ـ الفارسية ، تمثل مورداً إستراتيجياً ، بالإضافة الى شركة الهند الشرقية في البصرة ونفوذها ودورها السياسي الإمبريالي لبريطانيا في جيل ماقبل النفط ..
البصرة نفسها ، تحمل أهمية خاصة لبريطانيا من حيث موقعها الجغرافي ، وربط الطرق البرية والبحرية لأوربا والشرق الأوسط بالهند وما وراءها ..!
يذكر أنه في عام 1903 ، كانت الحكومة الألمانية الحليفة لتركيا ، قد وقّعت إتفاقا مع الإمبراطورية العثمانية لغرض بناء خط سكة حديد يربط بين برلين وبغداد عبر تركيا وسوريا ، ولو قدّر لهذا المشروع ، وبحسب النظرة البريطانية ، من أن يكتمل ، فإنه سيفتح أمام ألمانيا الطريق الى البصرة وبالتالي المحيط الهندي ..!
في أب / أغسطس من عام 1914 ، بدأ دوي المدافع يسمع في أوربا والشرق الأوسط .. لقد بدأت الحرب العالمية الأولى بين بريطانيا وفرنسا وروسيا من جهة ضد ألمانيا والنمسا والأمبراطورية العثمانية ( تركيا ) من جهة أخرى .. وفي نوفمبر 1914 ، نزلت القوات الهندية بقيادة بريطانيا في نفس الموقع تماما الذي نزلت فيه قوات التحالف الأمريكية ـ البريطانية بعد 89 سنة ، أي في سنة 2003 في الحرب الأخيرة على العراق ، وأعني به ميناء الفاو ..! وبعد السيطرة على مدينة البصرة .. ومع بداية عام 1915 ، بدا الجيش البريطاني بقيادة الجنرال ( جارلس تاونسند ) بالزحف بإتجاه بغداد ..! إلا أنه في منطقة الأهوار ، وخصوصا هور الحمّار واجهت تلك القوات مقاومة ضارية من العرب سكان جنوب العراق ومن بقايا الجيش التركي .. مقاومة كانت ربما أكبر بكثير من تلك التي واجهتها قوات التحالف في تقدمها نحو بغداد عام 2003 ...!
على الجبهة الثانية ، وفي نفس السنة 1915 ، الى الغرب من إسطنبول ، قاد الجنرال الألماني ( كولمان فان دير ) الجيش التركي ضد الجيش البريطاني والأسترالي في هجومهما على ( غاليبولي ) غرب إسطنبول ومضيق الدردنيل .. وأوقف هجومهما ...!
وبالعودة الى العراق .. فإن القوات التركية واجهت القوات البريطانية على مسافة قريبة من بغداد ، وبالذات في منطقة ( سلمان باك ) أو المدائن ، حيث تمكنت القوات التركية من دفع البريطانيين مسافة 100 ميل الى الجنوب ، وأعادتها الى منطقة الكوت جنوب بغداد ، حيث حاصرتها هناك لمدة 140 يوما ـ إستسلم بعدها الجنود البريطانيون وعددهم 13,000 جندي في حالة من التعب والجوع ، وكان ذلك في 16 نيسان / ابريل عام 1916 .. مما إعتبره البريطانيون أكبر نصر يحققه (المسلمين) ..! على الغرب على مدى قرون ...!
في ديسمبر 1916 ، وبعد أن سمع وزير المستعمرات البريطاني ونستون تشرتشل ، ووزير الخارجية ديفيد لويد جورج ، ومن قبل جواسيسهم في المنطقة ، أن المقاومة الشيعية من أهل مدينة النجف قاموا بإخراج الأتراك من مدينتهم .. توهم الإثنان أن إستراتيجية جديدة يمكن وضعها موضع التطبيق اساسها النفرة والصراع الطائفي بين السنة والشيعة ، وتم إعتماد الجنرال ( ستانلي مود ) هذه المرة لقيادة الهجوم البريطاني لإحتلال بغداد .. ولكن الحقيقة أنه كان هناك قصور في الرؤيا البريطانية لفهم العقلية العراقية العشائرية على الأرض حين إعتمدوا على الجانب الطائفي كورقة رابحة ..! تماما كما وقع في نفس الخطأ الأمريكان عام 2003 حين إعتقدوا أن وجود حكومة شيعية مرتبطة بهم في بغداد هو الضمان لكسبهم القاعدة الشعبية الشيعية .. ولا زالت أميركا تترنح بعد أربع سنوات من حملتها العسكرية ...!!
بقيت المقاومة في العراق ضد البريطانيين بكلي طرفيها الشيعي والسني على أوجها في منطقة الأهوار والفرات الأوسط وبغداد وما حولها .. ولكن مع قوة الماكنة العسكرية البريطانية ، إستطاع الجنرال مود من دخول بغداد في 15 آذار / مارس 1917 .
كان مود وبقية قواته منهكين ، كما كان داء الكوليرا قد تمكن من بعضهم .. مما أدى الى وفاة الجنرال مود ، ودفن في بغداد ...!
أما على صعيد السياسة ، فقد صرحت بريطانيا ، انها جاءت لتحرر العراق ، وتزرع الديمقراطية فيه ..! ( وما أشبه ما حدث بالأمس بما حدث لاحقا بعد ثمانية عقود ولايزال يحدث ...!!)
في نفس الوقت ، وضعت القيادة البريطانية في مصر ، خطةُ لإعتماد المقدم لورنس ، الذي عرف لاحقا ( بلورنس العرب ) ليقوم بقيادة حرب عصابات ضد الأتراك في الجزيرة العربية وبالتحالف مع العرب ..! ولهذا الغرض ، فقد إلتقى لورنس مع بعض المسؤوليين العرب في إجتماع في دمشق عام 1915 لتطمينهم ووعدهم بمنح الإستقلال لدولهم من الإمبراطورية العثمانية .. لقد أطلق على هذا اللقاء ( بروتوكول دمشق ) وتضمن نوع من الإستقلال للدول العربية ، أو بالأحرى بعضها مثل الجزيرة العربية بضمنها اليمن ، وسوريا ، ولبنان ، والعراق ..!
ولكن في واقع الأمر فإن البروتوكول لم يكن يمثل وجهة النظر السياسية البريطانية الحقيقية ، التي أرادت إستخدام العرب لدحر الأتراك .. والتريث في موضوع منح الإستقلال ...!
للمقال بقية...
lalhamdani@yahoo.com
No comments:
Post a Comment