علي الحمـــداني 4
إنتهينا الى تطور العلاقة الإسرائيلية ـ الأمريكية ـ الكردية .. ودور الولايات المتحدة الذي بدأ لاحقا بسيناريو مختلف عن التعاطف الإسرائيلي مع الكرد .. والحب الكردي لإسرائيل .. ونحن هنا نتكلم عن السياسيين والقادة من الطرفين وليس عن الشعوب ..
هنري كيسنجر ، الذي خدم كوزير للخارجية الأمريكية مابين سبتمبر 1973 ويناير 1977 ، كما عمل كذلك مستشاراً للأمن القومي من يناير 1969 وحتى نوفمبر 1975 .. وكان المقرر والمخطط للسياسة الأمريكية طوال تلك السنوات ، واللاعب الرئيسي الذي له بصماته في كثير من الأحداث العالمية .. إستعرض في الفصل الثالث من مذكراته التي نشرت تحت عنوان ( سنوات التجديد ) في عام 1999 ، التحدث عن العلاقة ( الأمريكية ـ الإسرائيلية ـ الإيرانية ـ الكردية ) ، والتي لعبت دوراً في السبعينات ، وعن أهمية ودور تلك العلاقة . والحقيقة أن ماورد في تلك المذكرات ، يضع النقاط على الحروف في سياسة بوش وخططه منذ غزوه للعراق عام 2003 ولحد الآن .
يقول كيسنجر : إن حماية الأكراد من القوة العسكرية العراقية ، كان يتطلب تدخلات وإرتباطات أمريكية كبيرة ومعقدة ، في وقت كانت علاقة الشرق بالغرب تسوء وتضعف .. كما أن محادثات السلام العربية ـ الإسرائيلية لم تكن تسير بشكل جيد . كانت إدارة نيكسون تحت النار من معارضيها بسبب نتائج حرب فيتنام ، والمشاكل الداخلية .. وأن تحقيق رغبة الأكراد في التجهيز والدعم ، يجب أن توزن بالقياس الى موقعهم الجغرافي في المنطقة العربية وفي تركيا وإيران .. مع الأخذ بنظر الإعتبار المصالح الأمريكية لدى أصدقائها من الدول العربية الغنية بالنفط ...!
ويلاحظ من سرد كيسنجر هنا قبل ثمان سنوات ، في التحدث عن الوضع الإقليمي العربي والعالمي قبل 30 عاما ، أنه يكاد يتطابق بشكل كامل مع الوضع الحالي .. حرب فيتنام ومشاكل إدارة نيكسون الداخلية والخارجية .. يقابلها حرب العراق ومشاكل إدارة بوش الداخلية والخارجية ..!
مطالب الأكراد آنذاك بالدعم العسكري واللوجستي والسياسي من الأمريكان .. ومطالب الأكراد الحالية في الإستقلال ونفط كركوك والتأثير في الموقف العراقي ...! وتعقد الوضع العربي الإسرائيلي في لبنان ومع الحكومة الفلسطينية في الوقت الحاضر ..
ولهذا يمكن القول أن أفق كيسنجر السياسي لايزال يطغى على خطط بوش الحالية ..!
كانت نصيحة كيسنجر لإدارتي الرئيس نيكسون .. ثم الرئيس فورد ، اللتان كانتا قريبتين من إسرائيل وإيران ، أن تأخذا بنظر الإعتبار أن المساعدات الأمريكية والدعم الأمريكي يجب أن يوجهان حسب الأفضلية ، وأن تكون تلك الأفضليات حسب المصالح الأمريكية فقط ..!
خلال مؤتمر القمة الأمريكي ـ الروسي بين الرئيس نيكسون والرئيس بريجينيف عام 1972 ، وبعد عودة الوفد الأمريكي الى طهران من موسكو .. لاحظ كل من نيكسون وكيسنجر من خلال مباحثاتهما في موسكو وطهران ، أن نائب الرئيس العراقي آنذاك صدام حسين الذي بدأ يبرز كشخص قوي ممسك بزمام الأمور ، قد بدأ يتقرب من السوفيات ، هذا في الوقت الذي كان فيه الرئيس المصري أنور السادات يواجه مشكلة إخراج آلاف الخبراء السوفيات من مصر ، والذين لعبوا دوراً مهما في الحضور السوفياتي في منطقة الشرق الأوسط ...
كانت تلك الملاحظة بخصوص صدام مهمة بالنسبة للسياسة الأمريكية خصوصا بالنسبة لما كان يعرفه كيسنجر من معلومات عن خلفية صدام مع المخابرات المركزية الأمريكية ....!!
كيف بدأ دعم وكالة المخابرات المركزية الأمريكية لصدام ...؟!
يقول الملك حسين ، ملك الأردن الراحل ، في حديث له في سبتمبر 1963 مع الصحفي المصري والعربي البارز محمد حسنين هيكل مايلي :
( إسمح لي أن أخبرك أنني أعرف وعلى وجه التأكيد ، أن ماحدث في العراق في شباط " المقصود الإنقلاب البعثي على عبد الكريم قاسم في 8 شباط 1963 " كان بتأييد كامل من المخابرات المركزية الأمريكية ...! )
وعندما يؤكد شخص كالملك حسين ذلك .. فإنه يعلم مايقول ..!
لقد بدأ أول دفع من قبل وكالة المخابرات المركزية الأمريكية لصدام عام 1959 ، وذلك بعد أشهر من قيام الإنقلاب على الملكية في 14 تموز 1958 ، وحين بدأ عبد الكريم قاسم ، يرمي بثقله على الشيوعيين لإستخدامهم ضد مؤيدي جمال عبد الناصر في العراق من قوميين وبعثيين .. وقتها كانت هناك هبّة قومية في العراق والوطن العربي ، وكان هناك نفوذ بعثي ظاهر في سوريا ، والأهم وجود الجمهورية العربية المتحدة المكونة من مصر وسوريا تحت رئاسة عبد الناصر ...!
كان قاسم يرى في الجمهورية العربية المتحدة خطر يهدد الداخل العراقي لاسيما مع دعوات القوميين في العراق للإنضمام الى ذلك الإتحاد ، ووقوف الشيوعيين بقوة ضد ذلك ، وضد عبد الناصر .. مع كون عبد الناصر آنذاك حليف للسوفيات في المنطقة ...!!
من ناحية ثانية ، كانت إسرائيل وإيران تشاطران قاسم نفس الرؤيا السياسية من منظور آخر ، وهو خطر الجمهورية العربية المتحدة الإقليمي بالنسبة لإسرائيل وحليفتها إيران .. وكانت كل من إسرائيل وإيران مستمرتان في مد الجسور مع حليفهم ، الإنفصاليون الأكراد بقيادة البرزاني ...!
ومما يجب أن يذكر هنا ، أن وقوع الإنفصال وتفتيت الجمهورية العربية المتحدة في عام 1961 ، كان اللاعب الأساسي فيه هو حزب البعث في سوريا ...!
بالعودة الى قاسم ، فقد كان هاجسه ، زميله ورفيقه في إنقلاب 14 تموز ، وهو عبد السلام عارف ..الشخص القومي التطلع والمقرّب من عبد الناصر .. لذلك قام قاسم في 11 سبتمبر 1958 بعزل عبد السلام عارف من منصبه كنائب القائد العام للقوات المسلحة .. ثم بعد ذلك بإسبوعين تم تجريده من منصبه كنائب لرئيس الوزراء عبد الكريم قاسم .. وأخيراً في 21 نوفمبر .. تم إعتقال عارف بتهمة التآمر ( على الجمهورية ) .. وحكم عليه بالإعدام ....!!
عند هذه المرحلة .. كان الشاب الذي يحمل السلاح دائما ، والمتسم بالعنف والبالغ من العمر 22 عاما والمدعو صدام حسين التكريتي ، قد بدأ يطمح ويتطلع الى الأعلى .. لقد كان أحد أفراد المجموعة المسلحة التي حاولت إغتيال عبد الكريم قاسم في أكتوبر 1959 وهو في سيارته يمر في شارع الرشيد وسط بغداد .. لكن عبد الكريم قاسم نجا من الحادث بعد إصابته بجروح بالغة .. أما صدام الذي أصيب بإطلاقة في رجله ، فقد هرب عابرا نهر دجلة سباحة ، ليختفي في مسقط رأسه تكريت ثم هرب بعد ذلك الى سوريا ثم مصر حيث إستقر هناك لاجيء وطالب ..
تذكر مصادر المخابرات المصرية ، أن صدام قام بعدة زيارات الى السفارة الأمريكية في القاهرة وذلك مابين عامي 1959 و1961 .. إلا أن عبد الناصر فضّل التغاضي عن تلك التقارير لما كان يحمله من كراهية لعبد الكريم قاسم لهجمته ضد القوميين و ( الناصريين ) في العراق .. وضربه لحليفه عبد السلام عارف ، وإعدامه لمجموعة من الضباط القوميين في العراق ...! كما أن المعلومات التي لديه تقول أن الأمريكان مصرّين على تغيير الأوضاع في العراق ..!
كانت هناك أيضا مجموعات من القوميين العراقيين المتواجدين في لبنان ، وكانوا على إتصال أيضا بالسفارة الأمريكية هناك .. لقد كانت هناك ماتشبه المصلحة المشتركة بين البعثيين والأمريكان ..!
أما بالنسبة الى البعثيين الذين كانوا متخفين داخل العراق ، فقد تولى مهمة الإتصال بهم ( وليم ليكلاند) الملحق العسكري في السفارة الأمريكية في بغداد ...!
وهناك ماهو أكثر من هذا ، ذلك هو التنسيق بين المخابرات المصرية والأمريكية لإسقاط النظام العراقي ..! وكان العقل المنسق في ذلك هو ( جيمس كراتشفيلد ) الموظف في السفارة الأمريكية في القاهرة ، والذي يوصف من قبل معارفه ( بالمحارب البارد وبدرجة الإمتياز ..)
ولما لهذه الشخصية من دور في إنقلابي 1963 و1968 ، لابد من إلقاء نظرة قريبة للتعرف عليها عن كثب .
خدم كراتشفيلد في الحرب العالمية الثانية في أوربا ، ثم عمل في المخابرات المركزية الأمريكية في أوربا أيضا ، ثم إنتقل الى الشرق الأوسط .. وقبل تقاعده كان مستشاراً في البيت الأبيض .. توفي في 22 / 4 / 2003 وعمره 86 عاما ، وذلك بعد إسبوعين من سقوط بغداد ودخول الأمريكان اليها وخروج صدام منها متخفيا ، وهو الذي كان كراتشفيلد قد ساعده في السابق في الوصول الى السلطة
لقد وقعت عيني كراتشفيلد على إسم صدام لأول مرة في تقارير المخابرات في السفارة الأمريكية في القاهرة ، حيث كان صدام يعيش ويدرس وعلى إتصال ببعض البعثين في العراق ...!
وأخيراً وفي 8 شباط / فبراير 1963 ، سقط نظام عبد الكريم قاسم الموالي للشيوعيين .. في صباح ذلك اليوم قال كراتشفيلد : " إنه نصر كبير " ..!
أما صدام ، فقد سمع بما حدث عن طريق الراديو .. فاستقل أول طائرة عائداً الى بغداد ...
يقول كراتشفيلد في تصريح له لوكالة ( أسوشيتد بريس ) الأمريكية ، أن المخابرات المركزية كانت على علم بوقوع الإنقلاب قبل ستة أشهر من تأريخه .. وكذا كان يعلم الملك حسين ..! ويعترف أن صدام حينها لم يكن بالشخص القيادي أو البارز في الحزب ، ولكنه كان الأجرأ وصاحب طموح كبير وتطلع الى المستقبل ، كما إتسم بالعنف والقسوة على أعدائه .. وكانت هذه كلها ملاحظات تلقى الدراسة والإهتمام من قبل المخابرات الأمريكية ...!
أما فيما يتعلق بدور السوفيات في المنطقة العربية ، ونمو حزب البعث وعدائه التقليدي للشيوعيين والذي كان يصل حدود التصادم المسلح في بداية الستينات ، فيقول كراتشفيلد ، بأن ذلك قد تمت مناقشته في مؤتمر إستخباراتي غربي عقد في بيروت مع ( دك رايت ) رئيس المخابرات البريطانية المعروفة ( أم آي 6 ) في نوفمبر 1962 .. حيث أن الإتفاق قد تم على ضرورة إيقاف النشاط السوفياتي في المنطقة وبالضغط على الرئيس الأمريكي آيزنهاور لتغيير موقفه من عبد الناصر الذي يعتبر حليف إستراتيجي للروس ، وكذلك ضرورة العمل على تغيير نظام الحكم في العراق ...!!
قامت الولايات المتحدة بعد ساعات من نجاح إنقلاب شباط 63 ، بالإتصال بالبعثيين ووعدتهم بالإعتراف بالنظام الجديد ، وقد أتى ذلك عن طريق ( جيمس إيكنز ) السفير السابق لأميركا في المملكة العربية السعودية ، والذي كان يشغل منصب ملحقا في السفارة الأمريكية في بغداد في تلك الفترة .. قائلا ( في حساباتنا ، فإننا نستطيع أن نقيم علاقات أفضل مع النظام الجديد في بغداد ...!) بالمقابل فقد تسلم الأمريكان ـ وحسب ماذكر هاني الفكيكي ، أحد أبرز البعثيين في 1963 ـ طائرة (ميغ 21 ) ، ودبابة ( تي 54 ) وصاروخ ( سام ) وكلها أسلحة روسية الصنع ، لغرض دراستها وتحليلها ، ولمصلحة إسرائيل بالدرجة الأولى والتي كانت كما نعلم على علاقة حميمة بالبرزاني ..!
ومن الغريب أن الأمريكان قاموا بإرسال صفقة أسلحة الى حكومة بغداد عبر تركيا وإيران لإستخدامها في قتال الأكراد في منطقة كركوك الغنية بالنفط ...! كما قامت الولايات المتحدة بإسداء النصيحة الى جلال الطالباني رئيس الجمهورية العراقية الحالي ، بإيقاف عمليات التمرد ضد حكومة بغداد والتي كان قد بدأها في عام 1961 .. وتم تنفيذ ذلك ...!
وفي نفس الوقت أيضا ، وضمن مااعتبر شهر عسل أمريكي ـ بعثي ، عادت شركات أمريكية مثل (بارسونس ) و ( بكتيل ) و( موبيل أويل ) لتوقع عقود مع الحكومة العراقية الجديدة ، لعب فيها صدام دورا بحكم علاقته بأحمد حسن البكر ...
وقد ورد أن صدام سافر سرا الى دمشق آنذاك والتقى ميشيل عفلق ، وحمل معه الى العراق بعض التوصيات .. كانت كلها تصب في طموحه الشخصي اللامحدود للصعود الى الأعلى ....!!
للحديث بقية ...
lalhamdani@yahoo.com
No comments:
Post a Comment